حكم التدخين فى الإسلام

مقدمة
الحمدلله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه، أما بعد فقد ظهر هذاالنبات المعروف الذي يطلق عليه اسم "الدخان" او "التبغ " أو " التمباك " أو " التتن"، في آخر القرن العاشر الهجري، وبدأ استعماله يشيع بين الناس، مما أوجب على علماءذلك العصرأن يتكلموا في بيان حكمه الشرعي.


ونظرا لحداثته وعدم وجود حكم سابق فيه للفقهاء المجتهدين، ولا من لحقهم

من أهل التخريج والترجيح في المذاهب، وعدم تصورهم لحقيقته ونتائجه تصورا

كاملا ، مبنيا على دراسة علمية صحيحة، اختلفوا فيه اختلافا بينا فمنهم من

ذهب إلى حرمته ، ومنهم من أفتى بكراهته ، ومنهم من قال بإباحته ، ومنهم

من توقف فيه وسكت عن البحث عنه، وكل أهل مذهب من المذاهبالأربعة-

السنية- فيهم من حرمه، وفيهم من كرهه، وفيهم من أباحه. ولهذا لا نستطيع

أنننسب إلى مذهب القول بإباحة أو تحريم أو كراهة.



ويبدو لي أن الخلاف بينعلماء المذاهب عند ظهور الدخان، وشيوع تعاطيه،

واختلافهم في إصدار حكم شرعي فياستعماله، ليس منشؤه في الغالب

اختلاف الأدلة، بل الاختلاف في تحقيق المناط. فمنهممن أثبت للتدخين عدة
منافع في زعمه.ومنهم من أثبت له مضار قليلة تقابلها منافعموازية لها. ومنهم
من لم يثبت له أية منافع، ولكن نفى عنه الضرر وهكذا. ومعنى هذاأنهم لو
تأكدوا من وجود الضرر في هذا الشيء لحرموه بلا جدال.


وهنا نقول: إنإثبات الضرر البدني أو نفيه في "الدخان " ومثله مما يتعاطى ليس
من شأن علماءالفقه،. بل من شأن علماء الطب والتحليل. فهم الذين يسألون
هنا، لأنهم أهل العلم والخبرة. قال تعالى: "فاسأل به خبيراً" وقال: "ولا ينبئك
مثل خبير". أما علماء الطبوالتحليل فقد قالوا كلمتهم في بيان آثار التدخين
الضارة على البدن بوجه عام، وعلى الرئتين والجهاز التنفسي بوجه خاص، وما
يؤدي إليه من الإصابة بسرطان الرئة مما جعلالعالم كله في السنوات الأخيرة
يتنادى بوجوب التحذير من التدخين.


وفي عصرناينبغي أن يتفق العلماء على الحكم وذلك أن حكم الفقيه هنا يبنى
على رأي الطبيب، فإذاقالت الطبيب إن هذه الآفة- التدخين- ضارة بالإنسان
فلابد أن يقول الفقيه هذه حرام،لأن كل ما يضر بصحة الإنسان يجب أن يحرم
شرعا.


على أن من أضرار التدخين مالايحتاج إثباته إلى طبيب اختصاصي ولا إلى محلل

كيماوي، حيث يتساوى في معرفته عموم الناس، من مثقفين وأميين.


علة التحريم


أما ما يقوله بعض الناس: كيفتحرمون هذا النبات بلا نص؟


فالجواب أنه ليس من الضروري أن ينص الشارع على كل فردمن المحرمات،
وإنما هو يضع ضوابط أو قواعد تندرج تحتها جزئيات نخشى، وأفراد كثيرة. فإن
القواعد يمكن حصرها. أما الأمور المفردة فلا يمكن حصرها. ويكفي أن يحرمالشارع الخبيث أو الضار، ليدخل تحته ما لا يحصى من المطعومات والمشروبات الخبيثة أوالضارة، ولهذا أجمع العلماء على تحريم الحشيشة
ونحوها من المخدرات، مع عدم وجود نصمعين بتحريمها على الخصوص.


وهذا الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري، نراه متمسكا بحرفية النصوص
وظواهرها، ومع هذا يقرر تحريم ما يستضر بأكله، أخذا من عموم النصوص. قال: " وأما كل ما أضر فهو حرام لقول النبي صلي الله عليه وسلم : "إن الله
كتب


الإحسان على كل شيء، فمن أضر بنفسه أو بغيره فلم يحسن، ومن لم
يحسن فقد خالف كتاب " أي كتابة الله الإحسان على كل شئ".





ويمكن أن يستدل لهذا الحكم أيضأ بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا
ضرار". كما يمكن الاستدلال بقوله تعالى: " ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم
رحيما " ومن أجود العبارات الفقيهة في تحريمتناول المضرات عبارة الإمام
النووي في روضته قال: "كل ما أضر أكله، كالزجاج والحجروالسم، يحرم أكله.
وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل أكله، إلا المستقذرات الطاهرات،كالمني والمخاط. فإنها حرام على الصحيح… ويجوز شرب دواء فيه قليل سم إذا
كانالغالب السلامة، واحتيج إليه.


الضرر المالي


لا يجوز للإنسان أن ينفقماله فيما لا ينفعه لا في الدنيا ولا في الدين، لأن الإنسان مؤتمن على ماله مستخلففيه. وكذلك فإن الصحة والمال وديعتان من الله ولذا لا يجوز للإنسان أن يضر صحته أو يضيع ماله. ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.


والمدخن يشتريضرر نفسه بحر ماله. وهذا أمر لا يجوز شرعا. قال الله تعالى: " ولا تسرفوا، إنهلا يحب المسرفين "ولا يخفى أن إنفاق المال في التدخين إضاعة له. فكيف إذا كان مع الإتلاف للمال ضرر متحقق يقينا أو ظنا. أي أنه اجتمع عليه إتلاف المال وإتلافالبدن معا.

ضرر الاستعباد
وهناك ضرر آخر، يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي، وأقصد به، أن الاعتياد على التدخين وأمثاله، يستعبدإرادة الإنسان،
ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة، بحيث لا يستطيع أن يتخلص منهابسهولة
إذا رغب في ذلك يوما لسبب ما، كظهور ضررها على بدنه، أو سوء أثرها في
تربيةولده، أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم، أو
نحو ذلك منالأسباب.


ونظرا لهذا الاستعباد النفسي، نرى بعض المدخنين، يجور على قوت أولاده،
والضروري من نفقة أسرته، من أجل إرضاء مزاجه هذا، لأنه لم يعد قادرا على التحرر منه.وإذا عجز مثل هذا يوما عن التدخين، لمانع داخلي أو خارجي، فإن
حياته تضطرب،وميزانه يختل، وحاله تسوء، وفكره يتشوش، وأعصابه تثور
لسبب أولغيرسبب.ولاريبأن مثل هذا الضررجدير بالاعتبار في إصدارحكم على التدخين.

التدخين محرم شرعا
ليس للقول بحل التدخين أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلميةالطبية في بيان أضراره، وسيء آثاره، وعلم بها الخاص والعام، وأيدتها لغة الأرقام.
وإذا سقط القول بالإباحة المطلقة، لم يبق إلا القول بالكراهة أو القول بالتحريم. وقد اتضح لنا مما سبق أن القول بالتحريم أوجه وأقوى حجة. وهذا هو رأينا. وذلك لتحقق الضرر البدني والمالي والنفسي باعتياد التدخين. لأن كل ما يضر بصحةالإنسان يجب أن يحرم شرعا.
والله تعالى يقول: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ويقول جل جلاله " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما" ويقول الله عزوجل " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" ، " ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوانالشياطين " ،فهناك ضرر بدني ثابت وهناك ضرر مالي ثابت كذلك، فتناول كل ما يضرالإنسان يحرم، لقوله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم " . من أجل هذا يجب أن نفتي بحرمةهذا التدخين في عصرنا.
والواقع الذي لاشك فيه هو ان الأطباء يجمعون على أنفي التدخين ضررا مؤكدا. صحيح أن ضرره ليس فوريا ، ولكنه ضرر تدريجي. والضرر التدريجي كالضرر الفوري في التحريم، فالسم البطيء كالسم السريع كلاهما يحرم تناولهعلى الإنسان.
والانتحار محرم بنوعيه السريع والبطيء، والمدخن ينتحر انتحارابطيئا. والإنسان لا يجوز أن يضر أو يقتل نفسه، ولا أن يضر غيره. ولهذا قال النبيصلي الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار" أي لا تضر نفسك ولا تضر غيرك، فهذا ضررمؤكد على نفس الإنسان بإجماع أطباء العالم، لهذا أوجبت دول العالم على كل شركة تعلنعن التدخين أن تقول إنه ضار بالصحة بعد أن استيقن ضرره للجميع، لهذا لا يصح أنيختلف الفقهاء في تحريمه.
والضرورات الخمس التي ذكرها الأصوليون وفقهاءالدين، وأوجبوا الحرص على المحافظة عليها وعدم الإضرار بها هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وكلها تتأثر بهذه الآفة. فدين الإنسان يتأثر، فمن الناس من لا يصوم رمضان لأنه لا يستطيع أن يمتنع عن التدخين. والنسل يتضرر بالتدخين، سواء كان المدخن أحد الأبوين أو كلاهما، بل إن الجنين يتضرر من تدخين أمه، بما يعني أن المدخن لايضر نفسه فقط وإنما يضر غيره، وهناك ما يسمى الآن التدخين القسري، أو التدخينبالإكراه، فيدخن الإنسان رغم أنفه وهو لا يتناول السجارة وإنما يتناولها قهرا عندمايجلس بجوار إنسان مدخن أو في بيئة فيها التدخين.
فأنت أيها المدخن تضر نفسكوتضر غيرك رغم إرادته وأنفه، فمن أجل هذا الضرر وغيره يجب أن يحرم التدخين وأن يجمعالعلماء على تحريمه. وقد أدار بعض العلماء معظم الحكم في التدخين على المقدرةالمالية وحدها، أو عدمها، فيحرم في حالة عجز المدخن عن مصاريف التدخين، ويكره للقادر عليه. وهذا رأي غير سديد ولا مستوعب. فإن الضرر البدني والنفسي الذي أجمعالعلماء والأطباء في العالم على تحققه له اعتباره الكبير، بجوار الضرر المالي. ثم إن الغني ليس من حقه أن يضيح ماله، ويبعثره فيما يشاء. لأنه مال الله أولا، ومالالجماعة ثانيا .
وينبغي للإنسان المسلم العاقل أن يمتنع عن هذه الآفةالضارة الخبيثة، فالتبغ لاشك من الخبائث، وليس من الطيبات، إذ ليس فيه أي نفع دنيويأو نفع ديني.
ونصيحتي للشباب خاصة، أن ينزهوا أنفسهم عن الوقوع في هذهالآفة، التي تفسد عليهم صحتهم، وتضعف من قوتهم ونضرتهم، ولا يسقطوا فريسة للوهمالذي يخيل إليهم أن التدخين من علامات الرجولة، أو استقلال الشخصية.
ومن تورطمنهم في ارتكابها يستطيع التحرر منها، والتغلب عليها وهو في أول الطريق، قبل أنتتمكن هي منه، وتغلب عليه، ويعسر عليه فيما بعد النجاة من براثنها، إلا من رحم ربك.
وعلى أجهزة الإعلام أن تشن حملة منظمة بكل الأساليب على التدخين، وتبينمساوئه. وعلى مؤلفي ومخرجي ومنتجي الأفلام والتمثيليات والمسلسلات، أنيكفوا عن الدعاية للتدخين، بوساطة ظهور السيجارة بمناسبة وغير مناسبة في كلالمواقف.
وعلى الدولة أن تتكاتف لمقاومة هذه الآفة، وتحرير الأمة من شرورها، وإن خسرت خزانة الدولة الملايين فإن صحة الأمة وأبنائها، الجسمية والنفسية،أهم وأغلى من الملايين. والواقع أن الدولة هي الخاسرة ماليا عندما تسمح بالتدخين،لأن ما تننفقه في رعاية المرضى الذين يصيبهم التدخين بأمراض عديدة وخطيرة تبلغأضعاف ما تجنيه من ضرائب تفرضها على التبغ، بالإضافة إلى ما تخسره من نقص الإنتاجبسبب زيادة تغيب المدخنين عن العمل نتيجة ما يعانونه من أمراض.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينير بصائرنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنابما علمنا، إنه سميع قريب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلامعليكم ورحمة الله وبركاته


الشيخ القرضاوى

0 التعليقات:

إرسال تعليق